فن الحياة والتعامل مع الآخرين - الصدق مع النفس أولاً
معرفة صدق الإنسان من عدمه ليس بالشيء اليسير، وهو يخضع للتجربة والممارسة المستمرة في التعامل مع الناس. التجربة والممارسة المستمرتان تكونان من خلال مواقف مختلفة ومتنوعة يوضع فيها الشخص أمام خيارات صعبة يظهر فيها مدى تمسكه بالمبادئ والمثل على حساب مصلحته الشخصية، ومن ثم مدى صدقه مع نفسه ومع الآخرين.
ولو تأملنا مفهوم الصدق فقد نجد له معاني مختلفة، منها أن الصدق هو عكس الكذب فكل من لا يتفوه بالحقيقة التي رآها وعلى يقين منها فهو غير صادق. ومنها أن الإنسان الصادق هو الذي لا يجامل بطريقة مبالغ فيها، ويقول ما يفكر فيه بأمانة. وأيضًا فإن الصدق يظهر على ملامح الإنسان، في بث الطمأنينة والراحة للآخرين بمجرد رؤيتهم له، حتى لو لم يعرفوه أو لم يتعاملوا معه كثيرًا.
والصدق غير قابل للتجزئة، فلا يكون الإنسان صادقًا مع بعض الناس وغير صادق مع الآخرين، وأيضًا فهو ثابت على مر الأيام فلا يصح أن ألتزم به اليوم وأتغاضى عنه غدًا. وهذا يعني أن الإنسان الصادق لا يبذل مجهودًا كبيرًا في التمسك به، فهو جزء من طبيعته وخصاله. فالصدق هنا تمتد جذوره داخل نفس الإنسان، فيكون أمينًا معها يعرف قدرها لا يبالغ فيه ولا ينقص منه، لا يلون آراءه حسب هوى الآخرين أو مناصبهم. وهو في هذا قد يواجه مواقف صعبة تتطلب شجاعة أدبية وحنكة في التعامل، مع عدم التخلي عن قول الحقيقة.وفي الواقع فإن هذا يعود عليه باحترام الناس وتقديرهم، بالرغم من احتمال تضايقهم منه في البداية، وتكون سمعته لدى الجميع طيّبة.
الصدق لا يتمشى مع النفاق، فمن كذب في المحادثة وخان الأمانة وأخلف الوعد فهو غير صادق، مع ذلك فلا نستطيع تكوين رأي صحيح عنه إلا إذا استمر في الكذب والخيانة وعدم احترام الوعود حتى دون عذر.
ولكي نستطيع التعرف على صدق الآخرين يجب أولاً معرفة كيف نفكر؟ وهل الجميع يحكمون على الأشياء بنفس الطريقة أم لا؟ ولماذا يختلف الناس في طريقة رؤيتهم للأمور وانطباعهم عن الأشخاص. فمن الملاحظ أن بعض الناس يكون على يقين من صدق شخص، وبعضهم الآخر يؤكد عكس ذلك.. فلماذا هذا الاختلاف؟ هذا التباين مرجعه النمط الذي يفكر به هذا أو ذاك الشخص.
* فهناك من يرى الأمور بطريقة "كل شيء أو لا شيء" أو أبيض ناصع وأسود داكن، لا يوجد عنده اللون الرصاصي أو البيج، فالناس أمامه يكونون إما ملائكة وإما شياطين. فإذا ارتكب أحدهم غلطة واحدة معه فيكون في نظره غير صادق حتى ولو كانت تلك الغلطة هي الأولى والوحيدة طوال سنوات تعامله معه.
* وهناك من يحكم على الناس من خلال مزاجه في تلك اللحظة، فلو كان مكتئبًا أو قلقًا بسبب شيء ما، فهو لا يرى في كلام الآخرين ولا يستخلص منه إلا النواحي السلبية، وبالتالي فإنه يرى فقط الجانب غير الصادق في المتكلم أمامه. وهذا ما نسميه بطريقة الخيار في الاستنتاج.
* الأحكام القاطعة التي تصل سريعًا إلى النتائج دون تريث، ويتوهم الشخص أنه يستطيع قراءة أفكار الذي أمامه وتفسير نظراته وتصرفاته بدقة، هذه النظرة غالبًا ما يشوبها الشك في كل شيء وفي كل إنسان.
* التعميم في الحكم على الناس، فإذا صُدم في شخص ما فيكون الجميع في نظره سيئين وغير صادقين، ويعاملهم على هذا الأساس. وهو يصر في علاقاته معهم على أن يثبتوا له حسن نيتهم بالرغم من صدقهم معه.
* طريق إلصاق صفات معينة ثابتة للأشخاص، فهذا يكون الوفي وذاك يكون الخبيث، وآخر يكون الصادق، وهذه الطريقة لا يكون فيها أي مرونة أو واقعية في الحكم على الأشخاص. المبالغة والتضخيم يوجد أيضًا نمط التفكير الذي يعتمد على المبالغة وتضخم الأشياء، فلو قابل إنسان يعامله بذوق وأدب فيكون ذلك الإنسان في نظره أحسن إنسان في العالم. وغالبًا ما تكون تلك الصفة ـ الذوق والأدب مثلاً ـ هي التي يفتقدها في تعاملاته مع الآخرين وهي الصفة التي يحبها. وعلى النقيض ممن يضخمون الأشياء فهناك من يقللون دائمًا من قيمة كل شيء. فمهما فعل الإنسان الذي أمامه فيكون غير كاف وهكذا. تلك الأنماط السابق ذكرها تختلف في درجتها من شخص لآخر، وقد توجد أنماط ثانوية بين كل الأنواع السابقة. وإذا تركنا جانبًا الأداة التي يستعملها كل منّا في الحكم على الآخرين، وهي التكوين العقلي والعاطفة اللذان يشكلان في النهاية طريقة تفكير كل منّا، وحاولنا وضع أمثلة ـ مجرد أمثلة ـ لكيفية رؤية تصرفات الآخرين لقلنا الآتي:
ـ إذا وجدنا شخصًا يتكلم كثيرًا، وينصت قليلاً لما يقوله الآخرون فقد يعكس هذا اهتمامه بنفسه أكثر من تجاوبه مع الآخرين، وقد يعكس هذا الأسلوب نفسه ـ في بعض الأحيان ـ عدم الثقة في النفس. لذلك فإن الانطباع الذي سيؤخذ عن هذا الشخص عند استمراره في اتباع الأسلوب نفسه هو عدم الصدق. والحقيقة أنه في غالبية الأحيان يكون ذلك الشخص طيب القلب، نقي السريرة صادق العاطفة ويعبر عنها بتلقائية.
ـ عندما لا يرى الشخص واقعة معينة، ورغم ذلك يسرد تفاصيلها بدقة شديدة ويؤكد صحتها، فيصعب الوثوق فيما يقول بعد ذلك، خصوصًا لأنه لم يستعمل عبارات مثل "أعتقد" أو "أنني غير متأكد تمامًا".
ـ عندما يُكثر الشخص من القسم بصدق ما يقول، ويكون في حاجة دائمة إلى التأكيد على صحة كلامه، فهو بذلك يُعطي الانطباع بعدم الطمأنينة والأمان. وعلى العكس من ذلك لو تعودنا سماع أقوال شخص ما دون أن يحتاج إلى تأكيدها، ويصر في تعاملاته على أن يصدقه الناس دون أي برهان أو قسم، فهذا يعني أنه حريص على كل كلمة يتفوه بها، ويتوخى الدقة والصدق فيما يقوم أو يفعل.
الصدق يظهر أيضًا في أسلوب الإنسان في التعامل مع الآخرين، سواء أكبر منه سنًا أو منصبًا أو أقل. فإذا تعامل مع الجميع بنفس الأسلوب فيكون مدعى للتصديق عن غيره، لأنه في هذا لا يختلق شيئًا مختلفًا عن طبيعته فيخرج منه تلقائيًا لا يتلون حسب المواقف أو المناصب. وفي النهاية فنحن لا نستطيع حصر جميع الحالات أو الادعاء بأن ما ذكر ينطبق على الجميع. وفي تصوري أن الفيصل في الأخير يكون في التفاعل بين عاملين أساسين وهما أولاً: قدرات الشخص العقلية وتجاربه في الحياة وطريقة نظرته للأمور، وهي التي تتفاعل مع العامل الثاني وهو الشخص الذي نتعامل معه وطريقة كلامه وتصرفاته. ويجب علينا أن نتذكر دائمًا أننا باستمرار نتأرجح بين وضع الذي يحكم على الآخرين ووضع الذي يُحكم عليه، وهذا يجب أن يجعلنا أكثر تواضعًا وأن الصدق يكون مع النفس أولاً.